الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
واختلف في جنسه؛ فروى شعبة عن أبي بِشر عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس قال: كان صواع الملك شيء من فضة يشبه الْمَكُّوك، من فضة مرصع بالجوهر، يجعل على الرأس؛ وكان للعباس واحد في الجاهلية، وسأله نافع بن الأزرق ما الصواع؟ قال: الإناء؛ قال فيه الأعشى: وقال عِكرمة: كان من فضة.وقال عبد الرحمن بن زيد: كان من ذهب؛ وبه كال طعامهم مبالغة في إكرامهم.وقيل: إنما كان يكال به لعزّة الطعام.والصاع يذكّر ويؤنّث؛ فمن أنّثه قال: أَصْوُع؛ مثل أَدْوُر، ومن ذكّره قال أَصْوَاع؛ مثل أثواب.وقال مجاهد وأبو صالح: الصاع الطِّرْجِهَالة بلغة حِمْير.وفيه قراءات: {صُوَاع} قراءة العامة؛ و: {صُوْغ} بالغين المعجمة، وهي قراءة يحيى بن يَعْمُر؛ قال: وكان إناء أصِيغ من ذهب.{وصُوع} بالعين غير المعجمة قراءة أبي رجا.{وصُوْع} بصاد مضمومة وواو ساكنة وعين غير معجمة قراءة أبيّ.{وصُيَاع} بياء بين الصاد والألف؛ قراءة سعيد بن جُبير.{وصاع} بألف بين الصاد والعين؛ وهي قراءة أبي هريرة.قوله تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} أي نادى منادٍ وأعلم.{وَأَذَّنَ} للتكثير؛ فكأنه نادى مرارًا: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ}.والعير ما امتير عليه من الحمير والإبل والبغال.قال مجاهد: كان عِيرهم حميرًا.قال أبو عبيدة: العِير الإبل المرحولة المركوبة؛ والمعنى: يا أصحاب العير، كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] ويا خيل الله اركبي: أي يا أصحاب خيل الله، وسيأتي.وهنا اعتراضان: الأوّل إن قيل: كيف رضي بنيامين بالقعود طوعًا وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن، ووافقه على ذلك يوسف؟ وكيف نسب يوسف السرقة إلى إخوته وهم بَرَاء وهو الثاني فالجواب عن الأوّل: أن الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثر فيه فقد بنيامين كل التأثير، أو لا تراه لما فقده قال: {يا أسفى عَلَى يُوسُفَ} ولم يعرّج على بنيامين؛ ولعل يوسف إنما وافقه على القعود بوحي؛ فلا اعتراض.وأما نسبة يوسف السرقة إلى إخوته فالجواب: أن القوم كانوا قد سَرَقوه من أبيه فألقوه في الجبّ، ثم باعوه؛ فاستحقّوا هذا الاسم بذلك الفعل، فصدق إطلاق ذلك عليهم.جواب آخر وهو أنه أراد أيتها العير حالكم حال السُّرّاق؛ والمعنى: إنّ شيئًا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك ولا علمه.جواب آخر وهو أن ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، وهذا بناء على أن بنيامين لم يعلم بدسّ الصاع في رحله، ولا أخبره بنفسه.وقد قيل: إن معنى الكلام الاستفهام؛ أي أو إنكم لسارقون؟ كقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} [الشعراء: 22] أي أوَ تلك نعمة تمنها عليّ؟ والغرض ألاّ يعزى إلى يوسف صلى الله عليه وسلم الكذب.{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)}فيه سبع مسائل:الأولى:قوله تعالى: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ}.البعير هنا الجمل في قول أكثر المفسرين.وقيل: إنه الحمار، وهي لغة لبعض العرب؛ قاله مجاهد واختاره.وقال مجاهد: الزعيم هو المؤذن الذي قال: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ}.والزعيم والكَفيل والحَمِيل والضّمين والقَبِيل سواء والزعيم الرئيس.قال: وقالت ليلى الأخيلية تَرثي أخاها: الثانية:إن قيل: كيف ضمن حمل البعير وهو مجهول، وضمان المجهول لا يصح؟ قيل له: حمل البعير كان معينًا معلومًا عندهم كالوَسْق؛ فصح ضمانه، غير أنه (كان) بدل مالٍ للسارق، ولا يحل للسارق ذلك، فلعله كان يصحّ في شرعهم أو كان هذا جعالة، وبذل مال لمن (كان) يفتّش ويطلب.الثالثة:قال بعض العلماء: في هذه الآية دليلان: أحدهما جواز الجُعْل وقد أجيز للضرورة؛ فإنه يجوز فيه من الجهالة ما لا يجوز في غيره؛ فإذا قال الرجل: من فعل كذا فله كذا صح.وشأن الجُعْل أن يكون أحد الطرفين معلومًا والآخر مجهولًا للضرورة إليه؛ بخلاف الإجارة؛ فإنه يتقدّر فيها العوض والمعوض من الجهتين؛ وهو من العقود الجائزة التي يجوز لأحدهما فسخه؛ إلا أن المجعول له يجوز أن يفسخه قبل الشروع وبعده، إذا رضِي بإسقاط حقه، وليس للجاعل أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل.ولا يشترط في عقد الجُعْل حضور المتعاقدين، كسائر العقود؛ لقوله: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} وبهذا كله قال الشافعي.الرابعة:متى قال الإنسان، من جاء بعبدي الآبق فله دينار لزمه ما جعله فيه إذا جاء به؛ فلو جاء به من غير ضمان لزمه إذا جاء به على طلب الأجرة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جاء بآبق فله أربعون درهمًا» ولم يفصل بين من جاء به من عقد ضمان أو غير عقد.قال ابن خُوَيْزِ مَنْداد ولهذا قال أصحابنا: إن من فعل بالإنسان ما يجب عليه أن يفعله بنفسه من مصالحه لزمه ذلك، وكان له أجر مثله إن كان ممن يفعل ذلك بالأجر. قلت: وخالفنا في هذا كله الشافعي.الخامسة:الدليل الثاني جواز الكفالة على الرجل؛ لأن المؤذن الضامن هو غير يوسف عليه السلام، قال علماؤنا: إذا قال الرجل تحمّلت أو تكفّلت أو ضمنت أو وأنا حَميل لك أو زعيم أو كَفيل أو ضامن أو قَبيل، أو هو لك عندي أو عليّ أو إليّ أو قِبَلي فذلك كله حَمَالة لازمة، وقد اختلف الفقهاء فيمن تكفل بالنفس أو بالوجه، هل يلزمه ضمان المال أم لا؟ فقال الكوفيون: من تكفّل بنفس رجل لم يلزمه الحق الذي على المطلوب إن مات؛ وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه.وقال مالك والليث والأوزاعي: إذا تكفّل بنفسه وعليه مال فإنه إن لم يأت به غرم المال، ويرجع به على المطلوب؛ فإن اشترط ضمان نفسه أو وجهه وقال: لا أضمن المال فلا شيء عليه من المال؛ والحجة لمن أوجب غرم المال أن الكفيل قد علم أن المضمون وجهه لا يطلب بدم، وإنما يطلب بمال؛ فإذا ضمنه له ولم يأته به فكأنه فوّته عليه، وعزه منه؛ فلذلك لزمه المال.واحتج الطحاوي للكوفيين فقال: أما ضمان المال بموت المكفول (به) فلا معنى له؛ لأنه إنما تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به.السادسة:واختلف العلماء إذا تكفل رجل عن رجل بمال؛ هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما؟ فقال الثوري والكوفيون والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحق: يأخذ من شاء حتى يستوفي حقه؛ وهذا كان قول مالك ثم رجع عنه فقال: لا يؤخذ الكفيل إلا أن يفلس الغريم أو يغيب؛ لأن التبدية بالذي عليه الحق أولى، إلا أن يكون معدمًا فإنه يؤخذ من الحميل، لأنه معذور في أخذه في هذه الحالة؛ وهذا قول حسن. والقياس أن للرجل مطالبة أي الرجلين شاء.وقال ابن أبي ليلى: إذا ضمن الرجل عن صاحبه مالًا تحول على الكفيل وبرئ صاحب الأصل، إلا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيهما شاء؛ واحتج ببراءة الميت من الدين بضمان أبي قتادة، وبنحوه قال أبو ثور.السابعة:الزعامة لا تكون إلا في الحقوق التي تجوز النيابة فيها، مما يتعلق بالذمة من الأموال، وكان ثابتًا مستقرًا؛ فلا تصح الحمالة بالكتابة لأنها ليست بدين ثابت مستقر؛ لأن العبد إن عجز رَقَّ وانفسخت الكتابة؛ وأما كل حق لا يقوم به أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيه، ويسجن المدعى عليه الحد، حتى ينظر في أمره.وشذّ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود والقصاص، وقالا: إذا قال المقذوف أو المدعي القصاص بينتي حاضرة كفله ثلاثة أيام؛ واحتج لهم الطحاويّ بما رواه حمزة بن عمرو عن عمر وابن مسعود وجرير بن عبد الله والأشعث أنهم حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة.قوله تعالى: {قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض}يروى أنهم كانوا لا ينزلون على أحد ظلمًا، ولا يرعون زرع أحد، وأنهم جمعوا على أفواه إبلهم الأكِمَّة لئلا تعيث في زروع الناس.ثم قال: {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يروى أنهم ردّوا البضاعة التي كانت في رِحالهم؛ أي فمن ردّ ما وجد فكيف يكون سارقا؟قوله تعالى: {قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} المعنى: فما جزاء الفاعل إن بان كذبكم؟ فأجاب إخوة يوسف: {جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي يُسْتعبَد ويُسْتَرقّ.{فَجَزَاؤُهُ} مبتدأ، و: {مَنْ وُجِدَ فيِ رَحْلِهِ} خبره؛ والتقدير: جزاؤه استعباد من وُجِد في رحله؛ فهو كناية عن الاستعباد؛ وفي الجملة معنى التوكيد، كما تقول: جزاء من سرق القطع فهذا جزاؤه.{كذلك نَجْزِي الظالمين} أي كذلك نفعل في الظالمين إذا سرقوا أن يُستَرقُّوا، وكان هذا من دين يعقوب عليه السلام وحكمه.وقولهم هذا قول من لم يَسْتَرب نفسه؛ لأنهم التزموا استرقاق من وجد في رحله، وكان حكم السارق عند أهل مصر أن يغرم ضعفي ما أخذ؛ قاله الحسن والسدّي وغيرهما.مسألة:قد تقدّم في سورة المائدة أن القطع في السرقة ناسخ لما تقدّم من الشرائع، أو لما كان في شرع يعقوب من استرقاق السارق، والله أعلم. اهـ.
|